حضانة الطفل بعد الطلاق
اهتمَّ الإسلامُ بالأسرة اهتماماً بالغاً ودقيقاً يشمل جَميع عَلاقاتها وتفاعُلاتها وظروفها، ومع حرصِ الإسلام على استمراريّة الأسرة وديمومة بنائها جَعل لمُشكِلاتها المُتوقّعة حلولاً استباقيَّة وأحكاماً تُخفّف وطأة هذه المشكلات والآثار المُترتّبة عليها، وقد ناقَشت الشّريعةُ جميع المُشكلاتِ المنبثقة عن أيّ تغييرٍ في حياةِ الأسرة ومسارها، فشرعت الطلاقَ ليكونَ الملجأ لحالة انسداد الآفاقِ الإيجابيّة لاستمرار علاقة الزواج، ورتَّبت لآثاره أحكاماً تشمل جميع أطراف الأسرة.
جاء اهتمامُ الشريعة بالأبناء مُنسجماً مع احتياجاتِهم البيولوجيّة والنفسيّة والتربويّة والعاطفية، فكان تشريعُ الحَضانة للأطفال بعد الطّلاق مبنيّاً على مُتغيّراتٍ عديدةٍ وظروفٍ مَخصوصةٍ يُستحكمُ فيها بعيار المَصلحة الأَولى للطّفل وحياتِه وأمانه.
- الحضانة لغةً
الرِّعاية والحِماية والتربية، ومَصدر الاسم حَضَنَ، والمراد فيه رعاية الطفل وتدبير أموره وحمايته والولاية عليه، يُقال: حضنت الأم طفلها، أي: ضمَّته إليها وجعلته في ناحيتها، واحتضن الطِّفل، أي: تولَّى حمايته ورعايته وتدبير أموره
- الحضانة اصطلاحاً
يتمحور مفهوم الحضانة اصطلاحاً حول العناية بالطفل أو الصبي غير المُميّز لمن يمتلك حقَّ حضانته، ويشمل ذلك أمور الرِّعاية، والعناية، والحماية، وتحقيق مصالحه والدِّفاع عنه.
- الحضانة في المذاهب
في مذاهب الأئمة تعريفاتٌ متقاربةٌ تتفق في جوهرها على خصوصيّة المفهوم وتوقُّفه على الطِّفل غير المميز، وقد ورد ذلك صراحةً في تعريف الحنفية والمالكيَّة، إذ عرّفت الحضانةُ في المذهبين بأنَّها رعاية الولد وحفظه والقيام بمصالحه لمن له حقُّ الحضانة.
ويَزيد الحنابلةُ والشافعيةُ على هذا التعريف بِتعميم الحضانةِ لتكون على الطفل غير المُميّز كالكبير المجنون، ومن لا يستطيعُ القيامَ بمَصالحه بصورةٍ سليمةٍ قد تؤدي إلى الإضرارِ به وتعريضه للخطر.
- الحضانة عند الفقهاء المحدثين
تشابهت آراء الفقهاء المحدثين في مفهوم الحضانة مع تعريفات المذاهب وتتّفق معها وقد تزيد عليها أحياناً، وقد زِيدَ في التعريفات مثلاً: تربيةُ الولد ورعايته مُدّةً من الزَّمن ضمنَ الفترة الزَّمنيَّة المخصوصة من عمره والتي لا يمكنه فيها الاستغناء عن رعاية النساء، بما يَضمن حفظَه، وأمنه، وإطعامه، وتنميته حتى يستقلَّ بأمره.
شَرع الإسلام حضانة الطفل لإعطائِه حقوقه في الرّعاية والحماية، وتعاهداً لبنائه وتعليمه؛ فالفطرة السويَّةُ تقتضي تعاهد الأبناءِ وحمايتهم وإطعامهم وتربيتهم وبذل الوسع في تنشئتهم بما يَليقُ بظروف الزَّمانِ والمكانِ والإنسانِ.
وقد أقرَّت الشَّرائع السماويَّة تشريعاتٍ تَفرض حفظ النفس على تَعدّد وجوه الحفظ والرعاية، وحفظ المحضونِ مرسلٌ على التربية والتنمية والإصلاح والإطعامِ والتعليمِ والإمساكِ عن الأذى للنفس أو للغير، وفي ذلك مُوافقةٌ لما جاءت به الشرائع وألمحت إليهِ الفِطرة.
ذهب الفقهاء إلى الحُكم بوجوب الحضانة للطِّفلِ على جميع الأحوالِ والظروف، ووجوبِها على الحاضِنِ بأحدِ أمرين:
- الوجوب العيني
وتكون الحضانة واجبةٌ عينياً على الحاضن إذا تفرَّد بحقِّ الحضانة للطفلِ، خَشية تعميم حضانته وانتقالِها للحاكم، الأمر الذي قد يُلحق الأذى بالطفل ويؤدّي لضَياع حقوقه.
- الوجوب على الكفاية
تكون الحضانة واجِبةً على الحاضنِ وجوب كفايةٍ إذا نازعهُ عليها منازع، أو تَعدَّد الحقُّ لأكثر من حاضن فإن أدَّاها أحدهم سَقطت عن البقيَّة، والوارد في أجرةِ الحضانةِ أنَّها حقٌّ يؤدَّى للحاضِنِ الفقير على اختلافِ حكم الحضانة عليه، أمَّا تحصيلها فمن مالِ المحضونِ إن كان له مال، أو من مالِ من تجب عليه نفقة المحضون من الأقارب العصباتِ أو الأقارب الوارثين.
أجمعَ أهلُ العلم والفقه على أحقيَّة الأم بحضانة أولادها إذا طلبتها وتوفّرت فيها شروط الحضانة، واستدلُّوا على الحكم بما نُقلَ عن رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام فيما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (أن امرأةً قالت: يا رسولَ اللهِ إن ابني هذا بطني له وعاءٌ، وثديي له سِقاءٌ، وحِجري له حِواءٌ، وإن أباه طلَّقني وأراد أن ينزِعَه مني. فقال: أنتِ أحقُّ به ما لم تَنكِحي)[5] [6]
على الرغم من اتّفاق الفقهاء على أسبقية الأم في حضانة الأولاد، غير أنَّهم اختلفوا في السنّ المُحدّد لنهاية الحضانة، والراجح في ذلك أنّ الحضانة موقوفةٌ على التمييز والاختيار، فإن بلغَ الطفلُ رشده وصار مميّزاً خُيِّرَ، فكانت رعايته بعد ذلك على اختياره.
وقد استدلّ العُلماء بذلك على الأدلَّة الصحيحة في أحاديث السنة النبوية، إذ روى أبو هريرة رضي الله عنه: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خيَّرَ غلامًا بين أبيهِ وأمِّهِ) واستدلُّوا بحادثة التخيير أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أنَّ امرأةً جاءَت فقالت: يا رسولَ اللَّهِ! إنَّ زوجي يريدُ أن يذهبَ بابني؛ وقَد سقاني من بئرِ أبي عِنَبةَ وقد نفعني فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: استَهِما عليهِ، قالَ زوجُها: من يحاقُّني في ولدي، فقالَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: هذا أبوكَ وَهذِه أمُّكَ فخُذْ بيدِ أيِّهما شئتَ فأخذَ بيدِ أمِّهِ، فانطلقَت بِه)
قدَّم النبي عليه الصلاة والسلام الاستِهام على التخيير إذا تراضى عليه الزَّوجان واتفقا، وجعل التخيير موقوفٌ على التَّنازع والاختلاف، فإذا كانَ الأبوان متفِّقانِ بأنَّ الحضانة لأحدهما ويميلانِ للتَّحكيم بالتَّراضي فالاستهام خير، وإن اختلفا بشأنِ الحضانةِ وأحقِّيتها فالتخييرُ للصبِيّ شرطَ التَّمييز.
وفي الحديثِ إشارةٌ إلى جواز القُرعةِ وشرعيَّتها عند تساوي أمرين، ولا يقوم الاستهام أو التخيير إلا بشرط انتفاع الصَّبي وتحقيق مصالحه، فإن قُدِّر أو عُلم أنّ أحد الأبوين فاقدٌ لأهليةِ حضانته لأسبابٍ تتعلَّقُ بالإساءة والتقصير فإنَّ أولوية الحضانة تُقضى لمن تكون مصلحة الطفل عنده.
إذا استحقّت المرأة حضانة طفلها أثناء عدَّتها من الطلاق الرجعي وجب عليها البقاء في سكنها ومحلِّ إقامتها الذي كانت تسكنه قبل وقوع الطَّلاق استدلالاً بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً)