الحصان الأزرق: رمز الحرية والانفتاح في الطب
في زمن كانت فيه مستشفيات الطب النفسي أشبه بمعازل يختفي المريض خلف جدرانها وقتا طويلا قد يمتد لنهاية عمره، وكان يُعهد إلى الطبيب النفسي أن يحمي المجتمع من"هؤلاء المرضى وعنفهم وغرابة أطوارهم"، نشأت قصة الحصان الأزرق ماركو كافالو، الذي لم يكن حصانا مفتول العضلات، ولا متفوقا في السباقات، لكنه أصبح بطلا ورمزا لتكسير جدران المعازل النفسية وإخراج المرضى النفسيين وإعادتهم لمكانهم الطبيعي في المجتمع. جدير بالذكر أنه حتى في أيامنا هذه، يأتي بعض الأهالي للعيادة طالبين مني أن يودعوا ابنهم أو ابنتهم مستشفى الأمراض النفسية للأبد، فتلك الفكرة ليست رهينة بالحقبة الزمنية القديمة، بل هي ممتدة حتى وقتنا الحاضر بالرغم من التقدم الحضاري والفكري فيما يتعلق بالصحة النفسية.
كان هناك حصان يجرُّ عربة الغسيل في المستشفى النفسي في مدينة ترييستي الإيطالية، وعندما تقدّم في العمر وأصبح متباطئا وضعيفا اتُّخذ قرارٌ بقتله، لكن المرضى نزلاء ذلك المستشفى كتبوا رسالة يعترضون فيها على ذلك ويطالبون بتقاعد كريم للحصان، فاستجاب مسؤولو المدينة وقاموا ببيع الحصان لصيدلاني سمح له أن يقضي سنواته الأخيرة في مزرعته حتى فارق الحياة.
صلاح الدين الايوبي مدبلج الحلقة 80
وبعد حين من وداعهم للحصان وفي إحدى ورشات الرسم، أراد أولئك المرضى أن يصنعوا مجسما لتكريم الحصان، فصنعوا تمثالا عملاقا من الورق المقوى وأسموه ماركو كافالو، كان المجسّم ضخما ولا يمكنه المرور من خلال بوابة المستشفى، وهنا نشأت المعضلة؛ كيف بإمكانهم إخراج المجسم من المصحّة؟ اقترح البعض أن يبقوا المجسم حبيس المستشفى، واقترح آخرون أن يتم تفكيكه وإعادة تركيبه خارج أسوارها، ولكن في يوم 25 فبراير 1973، قرر فرانكو بازاليا، الطبيب النفسي رائد المفهوم المجتمعي في الطب النفسي ومدير المستشفى في ذلك الحين، تحطيم جدار المستشفى ليخرج المجسم كاملا بلا أي عبث فيه. رافق ماركو كافالو مئات المرضى الراغبين بالعودة الى المجتمع وتجوَّلوا في شوارع المدينة. كتب أحد المرضى على جدار المستشفى أن ماركو يرغب في الاستمتاع بالركض. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف ماركو عن التجوال، وتم إرساله الى جميع أنحاء ايطاليا كشهادة ورمز للحرية في الطب النفسي.
في 13 مايو 1978، تمت الموافقة على القانون رقم 180 المعروف باسم "قانون بازاليا"، وهو قانون يمثل تحولًا كبيرًا في نهج العلاج في الصحة النفسية وحقوق الأفراد الذين يعانون من أمراض نفسية. فقبل هذا القانون كانت الرعاية الصحية النفسية في إيطاليا كغيرها من البلدان مرتكزة بشكل رئيسي حول المستشفيات النفسية والمصحات العقلية المعزولة. وكانت هذه المؤسسات غالبًا ما تشهد ظروفًا مروّعة، إذ يتعرض فيها المرضى لمعاملة غير إنسانية، بما في ذلك استخدام القيود الجسدية والعزل الاجباري. وكان الهدف من قانون بازاليا هو تعزيز نهج أكثر إنسانية وارتكازا على المجتمع في الرعاية الصحية النفسية، والتشجيع على إغلاق المستشفيات النفسية ودمج الأفراد الذين يعانون من أمراض نفسية في معترك الحياة، كما يركز القانون على حقوق المرضى ويسعى إلى القضاء على التمييز والوصمة المرتبطة بالأمراض النفسية.
في عام 1979، قبل عام واحد من وفاته، صرّح فرانكو بازاليا في أحد المؤتمرات قائلا: "نحن ضعفاء وننتمي إلى الأقلية، ولا يمكننا الفوز لأن القوة تفوز دائما. لكن يمكننا في أفضل الأحوال أن نقنع الآخرين بالقيم الفضلى، وفي اللحظة التي يقتنعون فيها، سنفوز، أي أننا ننشئ حالة تغيير يصعب العودة عنها".
من خلال قصة الحصان الأزرق، ماركو كافالو، تظهر قوة الإرادة البشرية والقدرة على التغيير. تمثل هذه القصة رمزًا للحرية والانتصار على القيود والقمع في ممارسات الطب النفسي. فبالرغم من أن المرضى النفسيين كانوا يعانون من ظروف صعبة ومحدودية في حركتهم، إلا أنهم استخدموا قوتهم الإبداعية والكتابية لإنقاذ الحصان ولخلق تغيير إيجابي في مجتمعهم، وللتأكيد على فكرة أنه حتى لو أصبح الآخرون غير فاعلين في المجتمع وأصبحت الفائدة منهم شحيحة، فذلك لا يعني أنه علينا التخلص منهم، بل علينا الحفاظ عليهم وعلى حقوقهم حتى آخر يوم من حيواتهم.
بفضل شجاعة فرانكو بازاليا ورفاقه، تم تحقيق تغيير جذري في معاملة الأمراض النفسية في إيطاليا وفي العالم. لقد كانت خطواتهم استثنائية، ونجحت في إعادة الكرامة والحرية للأشخاص المصابين بالأمراض النفسية. علينا ونحن نعدّ الخطط لتطوير خدمات الصحة النفسية على مستوى الوزارات والمؤسسات الرسمية، أن نتذكر قصة ماركو كافالو، فتلهمنا لعمل الاجراءات التي تحافظ على حقوق المرضى النفسيين، وعدم قصر الخدمات على المستشفيات بالرغم من ضرورة تواجدها لبعض الحالات ولمدة قصيرة من الزمن.